السبت، 10 مارس 2007

إجابات

قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحيم البخاري - حفظه الله -:

الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، أما بعد:فهذه أجوبة عن أسئلة الإخوة،

أسأل الله لي ولهم التوفيق والسَّداد في القول والعمل، إنَّه سميع مجيب.


السؤال الأول
:

عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (خلق الله التربة يوم السبت...) الحديث.


الجواب
:



الكلام على الحديث جواباً من وجوه
:
الأول
:
تخريجه باختصار.


أخرجه مسلمٌ (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم/ باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السَّلام)(4/رقم2789(27)/2149) و النسائي في (الكبرى)(كتاب التفسير)(10/رقم 10943/20) و أحمد في (المسند)(14/ رقم 8341/82) وابن حبان في (الصحيح)(14/ رقم 6161/30- الإحسان) والبيهقي في (الأسماء والصفات)(2/ رقم812/250) كلهم من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة به.الثاني: تقعيد:اشتهر القول: بأنَّ أحاديث الصَّحيحين قد تلقتها الأمة بالقبول. والأمر ليس على إطلاقه؛ ذلك أنَّ أحاديث الصحيحين تلقتها الأمة بالقبول سوى أحرف يسيرة انتقدها الحفاظ، وعليه فالأحاديث المنتقدة لا تعتبر مما تلقتها الأمة بالقبول، بغض النظر هل الصواب فيها مع الشيخين أم مع غيرهما،وإنما المقصود أنَّ هذه الأحاديث غير داخلة في القبول.ينظر: (علوم الحديث) لابن الصلاح (ص29- ط عتر) و(اختصار علوم الحديث) لابن كثير(1/124) و(الإتباع) لابن أبي العز (ص48).الثالث: هذا الحديث يعتبر من الأحرف التي نقدها أهل العلم على صحيح مسلم، فلا يعتبر من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول.الرابع: أقوال أهل العلم في الحديث:يمكن تقسيم أهل العلم الذين تكلموا في الحديث على قسمين:الأول: مَن صحَّحه.ذهب جماعة من الحفاظ إلى صحته والقول بثبوته، وهم:1/ الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج- رحمه الله- حيث أخرجه في (صحيحه).2/ الإمام الحافظ ابن حبان البستي- رحمه الله- حيث خرجه في (صحيحه).3/ الحافظ أبو بكر ابن الأبناري –رحمه الله- ينظر (مجموع الفتاوى)(17/17) و( الفضل المبين) للقاسمي (ص432-434)-.4/ الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي- رحمه الله – في (زاد المسير)(7/243).5/ العلامة الحافظ الشوكاني- رحمه الله- في (فتح القدير)(1/62).ومن المعاصرين: 6/ العلامة الناقد ذهبي العصر عبدالرحمن بن يحيى المعلمي-رحمه الله- في (الأنوار الكاشفة)(ص185-190).7/ العلامة المحدث ناصر السُّنة محمد ناصر الدين الألباني-رحمه الله- في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)(4/رقم1833) و(تحقيق مشكاة المصابيح)(3/رقم5735/ص1598) و(تحقيق مختصر العلو) للذهبي (تعليق رقم57/ص112).8/ شيخنا العلامة المحدث ربيع بن هادي المدخلي-حفظه الله- في تحقيقه وتعليقه لكتاب (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص173) وقد أكد لي قوله بصحة الحديث أيضاً في اتصال هاتفي معه حفظه الله في الأسبوع الماضي من شهر صفر لعام1428هـ.9/ شيخنا العلامة عبدالقادر بن حبيب الله السندي-رحمه الله- في رسالته (إزالة الشبهة عن حديث التربة) حيث تكلم عن الحديث سنداً ومتناً، ورسالته منشورة في (مجلة الجامعة الإسلامية) (العدد 49/ محرم- عام 1401هـ) و(العددان 50-51/ ربيع الآخر- رمضان/ عام 1401هـ).ومما ينبغي التنبه له أنَّ العلامة المعلمي والعلامة الألباني والعلامة السندي- رحمهم الله- تعرضوا في كتبهم آنفة الذكر بالجواب عمن دفع الحديث وأعلَّه بشيء من البسط والبحث، و كلام العلامة المعلمي من أمتن الكلام وأدقه.الثاني: مَنْ أعلَّه.تكلَّم بعض أهل العلم من الأئمة الحفاظ في الحديث، وعدَّه بعضهم من غرائب الصَّحيح، وبعضهم رجَّح أنَّه من كلام كعب الأحبار، وأنَّه اشتبه على بعض الرُّواة فجعلوه مرفوعاً، فمن أولئك العلماء:1/ الإمام الحافظ الناقد علي بن عبدالله المديني حيث قال الحافظ البيهقي في (الأسماء والصفات)(2/ عقب رقم 812/251- ط الحاشدي):" هذا حديث أخرجه مسلم في كتابه عن سريج بن يونس وغيره عن حجاج بن محمد.... وزعم بعضهم أنَّ إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم ابن أبي يحيى عن أيوب بن خالد، وإبراهيم غير محتج به" ثم أسند الرواية التي أشار إليها، وفيه سؤال محمد بن يحيى لابن المديني عن الحديث فقال:" هذا حديث مدني، رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى، وقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد، وقال لي: شبك بيدي عبدالله بن رافع، وقال لي: شبك بيدي أبوهريرة رضي الله عنه، وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقال لي: خلق الله الأرض يوم السبت ) فذكر الحديث بنحوه. قال علي بن المديني:" وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى".قال البيهقي عقبه:" قلت: قد تابعه على ذلك موسى ابن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد، إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف، وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد، وإسناده ضعيف، والله أعلم".2/ الإمام الحافظ الناقد يحيى بن معين –رحمه الله-، نقله عنه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال:" وكذلك روى مسلم (خلق الله التربة يوم السبت)، ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى بن معين والبخاري وغيرهما، فبينوا أن هذا غلط ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم"، و كذا في (التوسل والوسيلة)(ص173).3/ الإمام الحافظ شيخ المحدثين أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري-رحمه الله-، حيث رواه معلقاً في (التاريخ الكبير)(1/ص413-414) من طريق إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد به، ثم قال:" وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصحُّ".4/ الإمام شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني-رحمه الله- حيث تكلم على الحديث في مواطن عديدة من كتبه، فمن ذلك قوله:" وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله (خلق الله التربة يوم السبت)، فهو حديثٌ معلولٌ قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، قال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضاً، وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه، كما أنكروا عليه إخراج أشياء يسيرة" (الفتاوى)(17/236-237).و ينظر أيضاً: (الفتاوى)(1/256-257) و(18/73) و (التوسل والوسيلة)(ص172-173- تحقيق العلامة ربيع بن هادي).5/ الإمام الحافظ العلامة أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية- رحمه الله- حيث قال في (المنار المنيف)(ص78- ط الثمالي):" ويُشبه هذا ما وقع فيه الغلط من حديث أبي هريرة (خلق الله التربة يوم السبت) الحديث، وهو في صحيح مسلم، ولكن وقع الغلط في رفعه، وإنما هو من قول كعب الأحبار، كذلك قال إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في (تاريخه الكبير) وقال غيره من علماء المسلمين أيضاً. وهو كما قالوا؛ لأن الله أخبر أنه (خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام)، وهذا الحديث يقتضي أن مدَّة التخليق سبعة أيام،والله تعالى أعلم". ونحوه في (بدائع الفوائد)(1/85).6/ الإمام الحافظ المفسر أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير- رحمه الله- تكلم عن الحديث في مواطن من كتبه، فمن ذلك:" قد تكلم في هذا الحديث علي بن المديني والبخاري والبيهقي وغيرهم من الحفاظ، قال البخاري: وقال بعضهم: عن كعبٍ وهو الأصح. يعني: أن هذا الحديث مما سمعه أبوهريرة وتلقاه عن كعب الأحبار، فإنهما كان يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يُحدثه عن صُحفه، وهذا يحدثه بما يُصدِّقه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صُحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكدك رفعه بقوله أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي. ثم في متنه غرابة شديدة؛ فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها من سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن؛ لأن الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السموات في يومين من دخان..." (البداية والنهاية/ ط التركي)(1/32-35).وقال في (تفسيره) (1/ص72) (سورة البقرة: آية:29):" هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعاً، وقد حرر ذلك البيهقي".و ينظر نحوه في (التفسير) له (2/229-230)(سورة الأعراف: آية:54) و(3/465-466) (سورة السجدة: آية:4) و(4/101-102)(سورة فصلت: آية:12).7/ العلامة عبدالرؤوف المناوي- رحمه الله- حيث قال في (فيض القدير)(3/448):" قال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن؛ لأن الأربعة خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السموات في يومين".الخامس: تنبيه:تقدَّم النقل من (الفتاوى) و(التوسل) لشيخ الإسلام أنَّ الإمام يحيى بن معين ممن أعل الحديث، و أخشى أنْ يكون تصحف اسم الإمام يحيى بن معين على الناسخ فانقلب عليه اسم علي بن المديني إلى يحيى بن معين؛ ذلك أنَّ الأئمة كابن القيم و ابن كثير الذين تقدم النقل عنهما مع حرصهما على ذكر العلماء الذين أعلوا الحديث لم يذكرا فيمن ذكرا الإمام يحيى بن معين، وإنما ذكرا الإمام علي بن المديني، وكذا شيخ الإسلام فيما عدا الموطن المشار إليه آنفاً، ومما يذكر في هذا المقام أنَّ الحديث أخرجه ابن معين في (تاريخه) (2/ رقم 210/ص305) من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل به. ولم يعل الحديث أو يتكلم عليه بشيء!! فالله أعلم.السادس: من أجوبة بعض أهل العلم المصححين عن مآخذ المعللين.قال العلامة المعلمي في (الأنوار)(ص186):" ويرد على هذا- أي على كلام ابن المديني المتقدم- أن إسماعيل بن أمية ثقة عندهم غير مدلس، فلهذا والله أعلم لم يرتض البخاري قول شيخه ابن المديني، وأعل الخبر بأمر آخر فإنه ذكر طرفه في ترجمة أيوب..- فذكر قول البخاري السابق، ثم قال- ومؤدَّى صنيعه أنه يحدس أن أيوب أخطأ، وهذا الحدس مبني على ثلاثة أمور: الأول: استنكار الخبر لما مرَّ .- قلت: قدَّم رحمه الله أوجهاً ثلاثة في الاستنكار قبل نقل التعليل-.الثاني: أن أيوب ليس بالقوي، وهو مقل لم يخرج مسلم إلا هذا الحديث، لما يعلم من الجمع بين رجال الصحيحين،وتكلم فيه الأزدي، ولم يُنقل توثيقه عن أحد من الأئمة إلا ابن حبان ذكره في (ثقاته)، وشرط ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف.الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله (وقال بعضهم) وليته ذكر سندها ومتنها، فقد تكون ضعيفة في نفسها، وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين، ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب وعبدالله بن سلام ووهب بن منبه ومَن يأخذ عنهم أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم، وعليه بنوا قولهم في السبت، انظر(الأسماء والصفات)(ص272و275) وأوائل تاريخ ابن جرير، وفي (الدر المنثور)(ص/91) (أخرج ابن أبي شيبة عن كعب قال: بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وجعل كل يوم ألف سنة)، وأسنده ابن جرير في أوائل التاريخ (1/22ط الحسينية)، واقتصر على أوله (بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين)، فهذا يدفعُ أن يكون ما في الحديث من قول كعب.وأيوب لا بأس يه، وصنيع ابن المديني يدل على قوته عنده،وقد أخرج له مسلم في صحيحه، كما علمت وإن لم يكن حده أن يحتج به في (الصحيح)، فمدار الشك في هذا الحديث على الاستنكار، و قد يجاب عنه بما يأتي:أما الوجه الأول: فيجاب عنه: بأن الحديث و إن لم ينص على خلق السماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس: النور، وفي السادس: الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة والنور والحرارة مصدرهما الأجرام السماوية.والذي فيه أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام لم يذكر ما يدل أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئاً، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في التطور بما أودعه الله تعالى فيها، والله سبحانه لا يشغله شان عن شان.ويجاب عن الوجه الثاني: بأنه ليس في هذا الحديث أنَّه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدل أن خلق آدم كان في الأيام الستة ولا في القرآن ولا السنة و لا المعقول أن خالقية الله عز وجل وقفت بعد تلك الأيام الستة، بل هذا معلوم البطلان، وفي آيات خلق آدم أوائل البقرة وبعض الآثار ما يؤخذ منه أنه قد كان الأرض عمار قبل آدم عاشوا فيها دهراً، فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السموات والأرض.فتدبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتضح لك إن شاء الله أن دعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت،و لله الحمد.و أما الوجه الثالث: فالآثار القائلة إن ابتداء الخلق يوم الأحد ما كان منها مرفوعاً فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامته من قول عبدالله بن سلام وكعب ووهب ومَن يأخذ عن الإسرائيليات، وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت وانتشرت فلم ير ضرورة إلى تغييرها؛ لأن إقرار الأسماء التي قد عرفت واشتهرت وانتشرت لا يعد اعترافاً بمناسبتها لما أخذت منه أو بنيت عليه، إذ قد أصبحت لا تدل على ذلك، وإنما تدل على مسمياتها فحسب،ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي، فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام".و أما رواية ابن أبي يحيى المتقدمة: فقال العلامة الألباني كما (الصحيحة)(4/ ص450):" و رواية إبراهيم بن أبي يحيى التي أشار إليها البيهقي، قد أخرجها الحاكم في (علوم الحديث)(ص33)...- فذكرها ثم قال- وأشار الحاكم إلى تضعيفه هكذا مسلسلاً بالتشبيك، وعلته إبراهيم؛ فإنه متروك كما تقدم".السابع: الخلاصة:الذي يظهرُ مما تقدم من كلام أهل العلم عن الحديث أنَّ الحديث من الأحاديث المنتقدة على صحيح الإمام مسلم، و القول بثبوته أظهر وأقوى؛ والقول بتعليله قولٌ قويٌّ، والعلم عند الله.

##################################

السؤال الثاني: قول السائل: كيف يكون المحدث ثقة وفي الوقت نفسه يوصف بالتدليس؟الجواب: هناك أمور لا بد من الانتباه والتنبه لها كي تتضح الصورة جواباً عن هذا السؤال، وهذه الأمور هي كالتالي:الأول: التدليس له أقسام، منها تدليس الإسناد، و ألحق به: تدليس التسوية، و تدليس القطع، وتدليس السكوت وتدليس العطف، وتدليس الصيغ.ومنها تدليس الشيوخ، وألحق به تدليس البلدان.ولكل منها حدُّه وصوره، وليس المقام مقام بسط حدود تلك الأقسام وصورها؛ لذا ينظر في ذلك للتقريب كتب: علوم الحديث عموماً مثل: (معرفة علوم الحديث)(ص103) للحاكم و(الكفاية) للخطيب (ص59)و(ص508- 527) و( علوم الحديث) لابن الصلاح (ص73-76) و(شرح ألفية الحديث) للعراقي (1/180) و(التقييد والإيضاح) له (ص96-97) و (النكت على كتاب ابن الصلاح) لابن حجر(2/614- 651) و غيرها.وكوني أحلت إلى بعض كتب علوم الحديث، لا يعني ذلك إغفال كتب (العلل) و (التراجم) فإنَّها مليئة بالأمثلة في الباب، ولكن الأمر كما ذكرتُ قبلُ: أنَّه للتقريب فقط لا غير، فليتنبه.الثاني: ذكر أهل العلم بأنَّ التدليس له بواعث، وعليه فإن الحكم على الراوي يختلف باختلاف باعثه على التدليس.فمن ذلك: إيهام علو الإسناد، أو ضعف الراوي المدلَّس أو صغر سنِّ الشيخ المدلَّس عن سنِّ المدلِّس أو كراهية ذكره لسوء حاله لا لقدح في حديثه، أو إيهام كثرة الرواية، أو إيهام كثرة الشيوخ أو امتحان الأذهان واختبارها في معرفة الرجال، أو تحسين الحديث، أو غير ذلك من الأسباب والبواعث.لذا قال الحافظ الخطيب رحمه الله:" التدليس مكروه عند أكثر أهل العلم، وقد عظَّم بعضهم الشأن في ذمه" (الكفاية)(ص508)، فتدليس الإسناد أكثر العلماء والمحققين على ذمه وإنكاره، وأشده كراهة وذماً (التسوية) حتى قال الحافظ العراقي:" إنه قادحٌ فيمن تعمد فعله" (التقييد) (ص97)، وينظر (اختصار علوم الحديث)(1/175).وأما تدليس الشيوخ فهو أخف من سابقه، إلا أنَّ الحكم يتوقف على معرفة المقصد منه؛ فمن دلَّس لجرح في الراوي فعمَّاه فإنَّه يُجرح به؛ لأن الدين النصيحة، و ما كان إيهاما لكثرة شيوخ أو حديث أو نحو ذلك فإن الأولى تركه؛ لما فيه من التزين والشهرة، والله أعلم.ينظر: (اختصار علوم الحديث)(1/176) و(تدريب الراوي)(1/223-231) و(فتح المغيث)(1/208-229).الثالث: تنبيه مهم:إذا ثبت وصف راوٍ ما بأنَّه ثقة، فإنَّ هذا الوصف موجبٌ لقبول خبره- إن سلم من المآخذ-، فإن ثبت ما يوجب ردَّ خبره بالبينة والبرهان رُدَّ خبره.وعليه: فإذا ثبت وصف الراوي بأنَّه ثقة، ثم وردَ قولٌ فيه بأنَّه مدلِّسٌ، فإن التعامل مع هذا القول يكون كالتالي:1/ لابدَّ من ثبوت هذا الوصف؛ ذلك أنَّه ليس كل وصف يصح في الراوي، إذ قد ينقل القول وعند التحقيق لا يثبت القول و لا يصح، فمن ذلك ما قاله أبو الفرج المعافى النهرواني في كتابه (الجليس والأنيس) في حق الإمام شعبة بن الحجاج:" كان شعبة ينكر التدليس، ويقول فيه ما يتجاوز الحد- مع كثرة روايته عن المدلسين،ومشاهدته من كان مدلساً من الأعلام، كالأعمش والثوري وغيرهما- إلى أن قال- ومع ذلك فقد وجدنا لشعبة مع سوء قوله في التدليس تدليساً في عدة أحاديث رواها، وجمعنا ذلك في موضع آخر" انتهى.قال الحافظ ابن حجر في (النكت)(2/628-630) بعد نقله كلام النهرواني هذا:" وما زلت متعجباً من هذه الحكاية شديد التلفت إلى الوقوف على ذلك، و لا أزداد إلا استغراباً لها واستبعاداً إلى أن رأيت في (فوائد أبي عمرو بن أبي عبيدالله بن مندة) وذلك فيما قرأت على أم الحسن بنت المنجا عن عيسى بن عبدالرحمن بن مغالي قال قرئ على كريمة بنت عبدالوهاب ونحن نسمع عن أبي الخير الباغيان أنا عمرو بن أبي عبيدالله بن مندة ثنا أبوعمر عبدالله بن محمد بن أحمد بن محمد بن الأصفر ثنا النفيلي ثنا مسكين بن بكير ثنا شعبة قال: سألت عمرو بن دينار عن رفع الأيدي عند رؤية البيت؟ فقال: قال أبو قزعة حدثني مهاجر المكي أنه سأل جابر بن عبدالله رضي الله عنه: أكنتم ترفعون أيديكم عند رؤية البيت؟ فقال: قد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل فعلنا ذلك؟.قال الأصفر: ألقيته على أحمد بن حنبل فاستعادني، فأعدته عليه، فقال: ما كنتُ أظن أن شعبة يدلس. حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي قزعة بأربعة أحاديث هذا أحدها، يعني ليس فيه عمرو بن دينار.قلت: هذا الذي قاله أحمد على سبيل الظنِّ، و إلا فلا يلزم من مجرد هذا أن يكون شعبة دلس في هذا الحديث؛ لجواز أن يكون سمعه من أبي قزعة بعد أن حدثه عمرو عنه، ثم وجدته في (السنن) لأبي داود عن يحيى بن معين عن غندر عن شعبة قال: سمعتُ أبا قزعة...فذكره.فثبتَ أنَّه ما دلَّسهُ، والظاهر: الذي زعم المعافى أنه جمعه كله من هذا القبيل وإلا فشعبة من أشد الناس تنفيراً عنه.و أما كونه: كان يروي عن المدلسين، فالمعروف عنه أنه كان لا يحملُ عن شيوخه المعروفين بالتدليس إلا ما سمعوه...".2/ إن ثبت ثبوتاً صحيحاً وصف الراوي الثقة بأنَّه مدلس، فإنَّ النظر مع هذا الوصف هو كالنظر في ورود جرح في راوٍ ثبت تعديله؛ ذلك أننا قررنا في الأمر الثاني آنفاً أنَّ التدليس مكروه، و قد يُجرحُ به الراوي على ما تقدم بيانه، وعليه فلا بدَّ أولاً من ثبوت تدليسه في خبرٍ ما، وفي أي الأقسام يكون.لأنَّه قد يوصف الراوي بأنَّه مدلِّسٌ، وعند التأمل في الخبر المستدل به على تدليسه لا يثبت - كما تقدم في المثال السابق مع الإمام شعبة- أو يظهر أنَّه لا يدخل تحت أي قسم من أقسام التدليس المتقدمة، فمثلاً:عبدالله بن زيد الجرمي أبو قلابة، قال الحافظ أبوحاتم الرازي:" لا يُعرفُ له تدليسٌ" (الجرح والتعديل)(5/58)، وقال الحافظ الذهبي:"..إلا أنه يُدلِّسُ عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم، وكان له صحفٌ يحدث منها ويدلِّسُ" (الميزان)(2/426)، و ممن حدَّث عنه ولم يلحقه: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه – ينظر (النكت الظراف)(3/45-46).فالمتأمل في هذا المثال يظهر له بجلاء أنَّ التدليس المذكور في كلام الحافظ الذهبي لا يُراد منه التدليس بالمعنى الاصطلاحي عند بعض أهل العلم كابن حجر وغيره، وإنما هو إرسال؛ لذا عبارة الحافظ أبي حاتم أظهر في المعنى الاصطلاحي للتدليس؛ لذا نجد أن الحافظ ابن حجر علق في (تهذيب التهذيب)(2/340) على عبارة أبي حاتم بقوله:" هذا يقوي من ذهب إلى اشتراط اللقاء في التدليس، لا الاكتفاء بالمعاصرة".مثال آخر كسابقه: سأل الدوريُّ الحافظَ ابنَ معين عن:" حديث هشيم عن أبي إسحاق عن أبي قيس عن هزيل قال: قال عبدالله...-فذكره- فقلت له: مَن أبو إسحاق هذا؟ فقال يحيى: هشيم لم يلق أبا إسحاق السبيعي، ولم يلق أبا إسحاق الذي يُدلِّسُ عنه، والذي يقالُ له: أبو إسحاق الكوفي" (التاريخ) رواية الدوري (رقم 4861).الرابع: هل يوجد رواة ثقات وصفوا بالتدليس؟الجواب، نعم، لكنهم متفاوتون فيه فمنهم من يصنف تدليسه في تدليس الإسناد ومنهم من يصنف تدليسه في تدليس الصيغ أو القطع أو نحو ذلك من الأقسام المتقدمة، وهذا ينظر فيه إلى كلِّ راوٍ بحسبه، وسأذكر هنا بعض الرواة الثقات ممن وصفوا بالتدليس بغض النظر عن نوعه، فمنهم:أ/ عبدالله بن وهب المصري، قال الحافظ ابن سعد في (الطبقات)(7/518):" كان كثير العلم ثقة فيما قال: حدثنا، وكان يدلس".ب/ عمر بن علي بن عطاء المقدَّمي، قال الحافظ ابن سعد في (الطبقات)(7/291):" ثقة، وكان يدلس تدليساً شديداً، وكان يقول: وحدثنا، ثم يسكت ثم يقول: هشام بن عروة، الأعمش..".ج/ حبيب بن أبي ثابت الكوفي، ثقة جليل، قال الحافظ ابن خزيمة في كتاب (التوحيد) (1/87):" إن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلسٌ، لم يُعلم أنه سمعه من عطاء"، وقال الحافظ ابن حبان في كتاب (الثقات)(4/137):" كان مدلساً".د/ عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، ثقة فاضل، قال الحافظ الدارقطني كما في (سؤالات الحاكم له)(ص174):" شر التدليس تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وغيرهما".و يوجد آخرون كثر، لكن لعل في هذا القدر كفاية في الجواب عن السؤال والله أعلم.

ليست هناك تعليقات: